الرمز: هو الدال، ويأتي كلمة مكتوبة أو منطوقة، تتألف من مجموعة وحدات صوتية. وهو يقابل اللفظ في التراث، ويقابل الدال عند دوسوسير. والعلاقة بين الرمز والمرجع علاقة غير معللة وغير مباشرة، ولا تتم إلا من خلال جانبي المثلث أي: المرجع-الفكرة-الرمز.
-الفكرة (المفهوم): وهي الصورة الذهنية التي تتراءى من خلال الدال، والفكرة تقابل المعنى أو المدلول عند دوسوسير. والعلاقة بين الرمز والفكرة هي علاقة سببية، أي أن الفكرة هي العلة في وجود الرمز.
-المرجع: وهو الواقع الخارجي (المشار إليه) الموجود في الأعيان. وهذا لا وجود له عند دوسوسير. ويقابل المشار إليه في تعريف أوجدن وريتشاردز.
فالعلاقة بين الموجود في الألفاظ (الرمز)، والموجود في الأذهان (الفكرة) علاقة سببية، أي: أن الدال يتطلب في ذهن المتلقي المدلول، كما أن المدلول يتطلب هو الآخر في ذهن المتكلم الدال الملازم له، لذلك فإن المفاهيم المستوحاة من المرجع الخارجي قابلة لأن تكون مشتركة بين أفراد المجتمع، بينما هذه الخاصية تفتقر إليها الموجودات في الألفاظ (الدوال) وارتباطها بالمدلولات؛ لأنها تواضعية اصطلاحية. وقد ذكر ذلك الغزالي بصريح قوله: "الموجود في الأعيان والأذهان لا يختلف باختلاف البلاد والأمم بخلاف الألفاظ والكتابة، فإنهما دالتان بالوضع والاصطلاح"(28).
نجد هذا المفهوم للعلامة بأطرافها المذكورة عند حازم القرطاجني، حيث يقول: "قد تبين أن المعاني لها حقائق موجودة في الأعيان، ولها صور موجودة في الأذهان ولها من جهة على ما يدل على تلك الصور من الألفاظ وجود في الأفهام والأذهان"(29). وتبعاً لهذه الرؤية، فإن كل العلامات تدرك من خلال تلك المستويات الثلاثة. ولهذا فإن المدلول هو معنى الإشارة، أي: أنه يمثل العلاقة الأفقية بين إشارة وأخرى. وهذا هو الذي يجعل المدلول إشارة أيضاً تحتاج إلى مدلول آخر يفسر غموضها ويزيح إبْهامها.
إن المعاني، بوصفها مدلولاً تدل على العلامات اللغوية، هي فيما يذهب إليه حازم القرطاجني "الصور الحاصلة في الأذهان عن الأشياء الموجودة في الأعيان"(30). وهذه الصور الحاصلة في الأذهان (المفاهيم الذهنية) ليست إلا محصلة لعملية إدراك الواقع الخارجي، وليست العلامات اللغوية إلا عبارة عن هذه الصور الذهنية المدركة. من هنا تتساوى العلامات المنطوقة بالعلامات المكتوبة، أي: أن الألفاظ تتحول في الذهن إلى مجموعة من الصور والمفاهيم. وبعبارة أخرى تتحول من وجود عيني محسوس إلى وجود ذهني متخيل، ثم تتحول من هذا الوجود الذهني المتخيل إلى معان صوتية، فرموز كتابية. يقول حازم القرطاجني: "كل شيء له وجود خارج الذهن فإنه إذا أدرك حصلت له صورة في الذهن تطابق ما أدرك منه، فإذا عبر عن تلك الصور الذهنية الحاصلة عن الإدراك، أقام اللفظ المعبر به هيئة تلك الصورة الذهنية في أفهام السامعين وأذهانهم، فصار للمعنى وجود آخر من جهة دلالة الألفاظ. فإذا احتيج إلى وضع رسوم من الخط تدل على الألفاظ لمن لم يتهيأ لها سمعها من المتلفظ بها، صارت رسوم الخط تقيم في الأفهام هيئات الألفاظ، فتقوم بها في الأذهان صور المعاني، فيكون لها أيضاً وجود من جهة دلالة الخط على الألفاظ الدالة عليه"(31).
إن ما قدمه القرطاجني في هذا النص يقيم العلاقة بين الدلالات الصوتية والرموز الكتابية على أساس من الترابط الدلالي، حيث تجسد الرموز الكتابية هيئات الألفاظ في الأفهام. فإذا قامت هيئات الألفاظ في الأفهام تطلبت واستدعت الصورة الذهنية. والصورة الذهنية تشير بدورها إلى المدركات العينية الخارجية. وهكذا تجد العلاقات الدلالية قائمة على الترابط بين كل طرفين. وهذه العلاقات الدلالية عند القرطاجني يمكن تمثلها على النحو الآتي:
-الرموز الكتابية (دال) f الصورة السمعية للألفاظ (مدلول).
-الصورة السمعية للألفاظ (دال) f الصورة الذهنية (مدلول).
-الصورة الذهنية (دال) f الأعيان المدركة (مدلول).
وترى أن كل مدلول يصير بدوره دالاً؛ فالصورة السمعية للألفاظ تكون مدلولاً في علاقتها بالرموز الكتابية، ولكنها تصير دالاً في علاقتها بالصور الذهنية. والصور الذهنية تكون مدلولاً في علاقتها بالصورة السمعية، ولكنها تتحول إلى دال في علاقتها بالمدركات العينية الخارجية.
4-أنواع العلامات ومجالها الدلالي:
إذا كانت السيمياء تبدأ بالعلامة، فقد اهتم العلماء بتصنيف العلامات وتميزها وتعليلها من أجل إدراك مجال أوسع لماهيتها، وتوصلوا إلى أن النظام السيميائي للعلامة يتأسس على أنواع من العلامات، يمكن الإشارة إليها فيما يأتي:
1- إذا نظرنا إلى العلامة من حيث طبيعة الدال فهي إما أن تكون لفظية أو غير لفظية(32).
2- أما إذا نظرنا إلى العلامة اللفظية الوضعية أو الاصطلاحية، فهي لا تعدو أن تكون واحدة من ثلاث، وهي: المطابقة، والتضمن والالتزام. فإن لفظ "البيت" –مثلاً- يدل على معنى البيت بطريق المطابقة، ويدل على السقف بطريق التضمن، لأن البيت يتضمن السقف. وأما دلالة الالتزام فهي كدلالة لفظ السقف على الحائط، فهو كالرفيق الملازم الخارج عن ذات السقف الذي لا ينفصل عنه(33).
3- وإذا نظرنا إلى العلامة من حيث طبيعة العلاقة القائمة بين طرفي الدال (significant) والمدلول (signifié)، فهي إما وضعية أو طبيعية أو عقلية(34). ويمكن توضيح هذه المفاهيم في الآتي:
أ-الوضعية: هي العلامة الاصطلاحية المتفق عليها في وسط اجتماعي، أو المتواضع عليها بين أفراد المجتمع، ويضم هذا النوع كل العلامات اللفظية.
فقد توصف الفتاة فتسمى غزالاً دلالة على رشاقتها، وقد تسمى حمامة، وزهرة، وقضيباً،.. وقد يسمى الرجل جملاً دلالة على صبره وتحمله المشاق، وقد يسمى ثوراً وسيفاً ونجماً،.. وبعض هذا النوع من العلامات يدخل في إطار المجاز.
ب-العلامة الطبيعية: المقصود بالعلامة الطبيعية هي تلك العلامة الناتجة عن أحداث طبيعية، سواء أكانت طبيعة اللفظ، أم طبيعة الحامل المادي للعلامة. فكل العلامات التي تعكس أصوات الطبيعة من خرير المياه، وحفيف الأشجار، وولولة الريح تنسحب ضمن هذا النوع، وكذلك الأصوات الملازمة للانفعالات، والتعبيرات الفيزيولوجية، كملامح الوجه، وتغير لونه من حالة إلى أخرى(35).
جـ-العلامة العقلية: المراد بها دلالة الأثر على المؤثر، كدلالة السحاب على المطر، والدخان على النار. فالعلاقة العقلية في التراث العربي تنحصر في علاقة السببية، أي: يجد العقل ثمة علاقة ذاتية بين طرفي الدال والمدلول.
إن العلامة بنمطها السيميائي ذات فضاء، ليس من السهل إخضاعه لثنائية الدال والمدلول، لأن العلامة في أساسها تتسم بدينامية وحركية، وبالأحرى فهي انزياحية، وتكتسب دلالتها من الوسط الاجتماعي.
5-العلامة اللغوية والتحول الدلالي:
إن الألفاظ المفردة في التركيب "تجري مجرى العلامات والسمات ولا معنى للعلامة والسمة حتى يحتمل الشيء ما جعلت العلامة دليلاً عليه وخلافه"(36).
ولكن هذه العلامات اللسانية، لما تتميز بقابليتها للدخول في علاقات تركيبية، تتميز أيضاً بقابليتها للتحول الدلالي، بحيث تتحول العلامة في سياق معين إلى علامة ذات دلالة مركبة، يتحول مدلولها إلى دال باحثاً عن مدلول آخر. فإذا وصفت فتاة –مثلاً- في سياق معين بأنها نؤوم الضحى، فإن الصفة هذه تشير إلى مدلول آخر، هو أن الفتاة تنام حتى ترتفع الشمس في السماء. ولكن هذا المدلول يتحول إلى دال باحثاً عن مدلول، وهو أن الفتاة هذه مترفة، ولها من يخدمها.
وعبد القاهر الجرجاني وإن كان لا يتحدث عمّا يسمى بالتحول الدلالي، فإنه يتحدث عن المعنى ومعنى المعنى. فقد بين عبد القاهر الميدان الإجرائي للعلامة حين صنف الخطاب المنجز في الفكر الإنساني، فيقول: "الكلام على ضربين: ضرب أنت تصل منه إلى الغرض بدلالة اللفظ وحده،.. وضرب آخر أنت لا تصل منه إلى الغرض بدلالة اللفظ وحده، ولكن يدلك اللفظ على معناه الذي يقتضيه موضوعه في اللغة، ثم تجد لذلك المعنى دلالة ثانية تصل بها إلى الغرض.. أولاً ترى أنك إذا قلت: "هو كثير رماد القدر"، أو قلت: "طويل النجاد"، أو قلت في المرأة: "نؤوم الضحى"، فإنك في جميع ذلك لا تفيد غرضك الذي تعني من مجرد اللفظ، ولكن بذلك اللفظ على معناه الذي يوحيه ظاهره، ثم يعقل السامع من ذلك المعنى على سبيل الاستدلال معنى ثانياً(37).
وإذا تأملنا قول الجرجاني، فإننا نجده يماثل مفهوم بيرس للعلامة، من حيث قابلية التفسير، لأن تتحول إلى متوالية من العلامات، لها فضاء دلالي غير محدد فيقول: "المعنى ومعنى المعنى، تعني بالمعنى المفهوم من ظاهر اللفظ الذي تصل إليه بغير واسطة، ومعنى المعنى هو أن تعقل من لفظ معنى، ثم يقضي بك ذلك المعنى إلى معنى آخر"(38).
يفهم من هذا القول أن المعنى (المدلول)، قد يتحول إلى مبنى (دال) باحثاً عن مدلول آخر، أي: أن المعنى بحد ذاته إشارة تعود على موضوعها الذي أفرز المعنى.
الخاتمة:
يتضح من هذا البحث المتواضع، حول علم السيمياء في التراث العربي، أن القدامى قد تفطنوا في وقت مبكر إلى قيمة العلامة، من حيث هي حقيقة حسية تعود وتحيل إلى حقيقة مجردة غائبة. وكانت دراستهم التطبيقية تتمركز حول الدراسات القرآنية؛ فالقرآن هو الموجه والباعث الحقيقي للدرس السيميائي.
ولعلنا نكون في النهاية قد لفتنا أنظار الدارسين إلى أهمية علم السيمياء فيما يمكن أن يفتح لنا من مداخل، تمكننا من إعادة قراءة التراث بكل جوانبه ومناحيه قراءة جديدة، فنعيد اكتشاف ذاتنا الثقافية والحضارية من خلاله.
الهوامش:
(1)-ينظر، عبد العزيز بن عبد الله، التعريب ومستقبل اللغة العربية، معهد البحوث والدراسات العربية، 1975، ص 78، 79.
(2)-ينظر، ابن منظور، لسان العرب، دار صادر، بيروت، (د.ت)، 12/311، 312، مادة (سوم).
(3)-ذكره الجوهري في الصحاح، دار العلم للملايين، بيروت، ط3، 1984، 5/1956، (سوم). وابن منظور، لسان العرب، 12/312، (سوم).
(4)-ينظر، عبد العزيز بن عبد الله، الدلالة المقارنة في خدمة تاريخ الحضارة المقارن، مجلة اللسان العربي، العدد 23، الدورة المالية 1982، 1983، ص166.
(5)-Greimas. couteé sémiotique. Hedrette. Paris. 1979. p 339
(6)-جميل حمداوي، مجلة عالم الفكر، الكويت، المجلد 25، العدد 3، مارس 1997، ص79.
(7)-المرجع السابق، ص 79.
(Cool-بيير جيرو، علم الإشارة –السيميولوجيا- ترجمه عن الفرنسية منذر عيّاشي، دار طلاس للدراسات والترجمة والنشر، دمشق، ط1، 1988، ص 23.
(9)-ينظر، المرجع السابق، ص 23.
(10)-ينظر، حنون مبارك، دروس في السيميائيات، دار توبقال للنشر، الدار البيضاء، المغرب،
ط1، 1987، ص29 وما بعدها.
(11)-مازن الوعر، مقدمة علم الإشارة –السيميولوجيا- لبييرجيور، ص9.
(12)-ينظر، ترنس هوكز، البنيوية وعلم الإشارة، ترجمة مجيد الماشطا، دار الشؤون الثقافية العامة، بغداد، ط1، 1986، ص113.
(13)-بيير جيرو، علم الإشارة، السيميولوجيا، ص 23، 24.
(14)-C. Peirce, Iettrs to welby, ed. i. Clieb, New haven, 1953, p 32.
(15)-C. Peirce, colle ceted papers, vol 2, combridge, mass, 1960, p156.
(16)-القاضي عبد الجبار، المغني، تحقيق تحت إشراف طه حسين إبراهيم مدكور، وزارة الثقافة والإرشاد القومي، مصر، 1960-1965، ص 186.
(17)-الراغب الأصفهاني، المفردات في غريب القرآن ت: محمد أحمد خلف الله، مكتبة الأنجلو المصرية، (د،ت)، مادة (فقه).
(18)-ينظر، مازن الوعر، مقدمة علم الإشارة، لبيير جيرو، ص 10.
(19)-ينظر، عبد العزيز بن عبد الله، التعريب ومستقبل اللغة، ص 78-79.
(20)-الجرجاني، كتابة التعريفات، ت: إبراهيم الأبياري، دار الكتاب العربي، بيروت، ط1، 1985، ص 139.
(21)-ابن فارس، معجم مقاييس اللغة، دار الفكر، 1979، 2/259، مادة (دل).
(22)-أبو هلال العسكري، الفروق في اللغة، دار الآفاق الجديدة، بيروت، ط4، 1963، ص13.
(23)-الراغب الأصفهاني، مفردات في غريب القرآن، مادة (دل).
(24)-الجاحظ، البيان والتبيين، ت:عبد السلام محمد هارون، ط3، (د،ت)، 1/76.
(25)-ابن سينا، العبارة، ت:محمود الخضيري، القاهرة، 1970، ص3، 4.
(26)-الغزالي، معيار العلم، ت:سليمان دنيا-دار المعارف، القاهرة، ط2، (د،ت)، ص، 35، 36.
(27)-ينظر، كمال البشر، دراسات في علم اللغة، القسم الثاني، دار المعارف بمصر، ط3، 1971، ص159.
(28)-الغزالي، معيار العلم، ص،75، 76.
(29)-حازم القرطاجني، منهاج البلغاء، وسراج الأدباء، ت:محمد الحبيب بن الخوجة، دار الكتب الشرقية، تونس، 1966، ص19.
(30)-ينظر المصدر السابق، ص، 18.
(31)-ينظر، المصدر السابق، ص، 18، 19.
(32)-ينظر، عادل فاخوري، علم الدلالة عند العرب، دار الطليعة، بيروت، ط1، 1985، ص، 13-37.
(33)-الغزالي، المستصفى من علم الأصول، ت:محمد مصطفى أبو العلاء، شركة الطباعة الفنية المتحدة، 1971، ص41، ماهر مهدي هلال، حرس الألفاظ ودلالتها في البحث البلاغي والنقدي عند العرب، دار الحرية للطباعة، بغداد، 1980، ص، 286.
(34)-ينظر، الآمدي، الإحكام في أصول الأحكام، مؤسسة الحلبي وشركائه، القاهرة، 1967، 1/17.
(35)-عادل فاخوري، علم الدلالة عند العرب، ص18 وما بعدها.
(36)-الجرجاني، دلائل الإعجاز، دار المعرفة، بيروت، 1984، ص 202.
(37)-المصدر السابق، ص 262، 263.
(38)-المصدر السابق، ص 203.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق